من يشك في أن كلمة «الثقة» تحمل معنىً إيجابيًا يدعو للاطمئنان لكنها في الاقتصاد الحديث تحولت بدوافع مستترة الى مقاصد اخرى مغايرة احيانا، فهي مثلًا عند المؤرخ يوڤال هَراري في كتابه الكبير «سيپيانز/ موجز لتاريخ البشرية» هي اساس استخدام النقود كعملة للتداول مقابل السلع، ولولا تلك الثقة لانهارت التعاملات التجارية لأن القيمة الفعلية للمواد بأنواعها لا يمكن معادلتها بقطع معدودات من الذهب مخزونة على اي حال عند اصحابها ومسجلة كأرقام مجردة في بنوكهم، حتى ان اميركا قامت في القرن الماضي (في عهد الرئيس نيكسون) ودون اكت?اث بمصالح الآخرين بإلغاء غطاء الذهب واستبدلته بطبع ما تشاء من عملتها الورقية (الدولار)، لكن هذه «الثقة» نفسها هي التي ادت بالبضاعة بالغةً ما بلغت قيمتها ملايين أو بلايين لان تصبح واقعيا ملكاً للبنوك وأصحابها مطمئنون عليها..!
أما «الوديعة» فهي مبلغ من المال يودعه صاحبه في البنك بدل حفظه في قاصة في البيت خشية السرقة! ويمكنه ان يتقاضى عنها نسبة مئوية تضاف لحسابه تسمى فائدة، وهناك ودائع كبيرة بالمليارات تضعها الحكومات ك"أمانة» لدى بنوك دول كبرى وتستطيع هذه استخدامها في استثماراتها كجزء من رأسمالها ومن حق تلك الحكومات ان تستعيدها حين تطلبها بشروط متفق عليها، لكن الامور تغيرت مع سياسة البنوك حسب اقتصاد السوق منذ مدرسة ميلتون فريدمان في شيكاغو وسيطرة كبريات الشركات العالمية على اقتصادات اكثر بلدان العالم حتى باتت هذه الودائع الضخمة ف? اميركا وكأنها ملك لبنك الفيدرال ريزيرڤ يتصرف بها حسب مصالح حكومة الولايات المتحدة السياسية والعسكرية والاقتصادية وحتى الاستخباراتية، ولم يعد سرًا انها تحتجز حاليا أموالًا ضخمة من الودائع ترفض اعادتها لأصحابها بموجب عقوبات اقتصادية او مالية فرضتها عليها حتى لو كانت في أمسّ الحاجة لها كسوريا وافغانستان وايران والعراق، وبعض هذه العقوبات كان يمنع مثلًا حكومة العراق من تسديد ديونها المستحقة لإيران الى ان سمحت لها اميركا بذلك قبل ايام لجنة العقوبات الاميركية! وهو ما يفسر واحداً من الأسباب الرئيسية لتشكيل تحالفا? دولية جديدة لا تخضع لأميركا وليست مجبرة عل التقيد بالدولار بل حرة في التعامل بعملة اجنبية اخرى او بعملاتها الوطنية مثل الBRICS اي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا.
قبل ايام ناقش راديو «رالف نادر» من واشنطن الكتاب الجديد «ساعة الاقتصاديين: الانبياء المزورين، الأسواق الحرة وتحطيم المجتمعات» لبنيامين آپلبوم الذي تحدث عمًا جاء فيه مند ان التحليل الاقتصادي اصبح يميل اكثر فأكثر الى استبعاد ما لا ينسجم مع معادلات نظام السوق، وهناك كم كبير من الفهم الشائع الخاطئ عن أن الانفاق على مشاريع الشركات الكبرى هو استثمار، أما على المواطنين فهو إسراف، وعند الحديث عن التعليم يقال تكاليف ونفقات، أما عن صناعات تكنولوجية معينة مثل الSemiconductors فيقال انه استثمار في المستقبل! وهذا في رأ?ي بعيد كل البعد عن العقل، لان الانفاق على التعليم هو أهم استثمار منتج يمكن ان نقوم به.. وأردف: إن أُصوليي اقتصاد السوق يغفلون عن عمد ان ارتباط الجشع بالسطوة هو خطر متزايد لا نهاية له، وان تنافسية السوق الحر تؤدي الى نشوء احتكارات تشوّهه بهيمنة الشركات الكبرى على مصائر الصغرى، والى غش المستهلكين والتزييف في صناعة الإعلان!
وبعد.. فان اختصاصيين اقتصاديين كثر من غير المنحازين لنظام السوق المنفلت، يرون ان من الممكن العودة بمصطلحات مثل: الثقة والامانة والوديعة وسواها الى سابق عهدها صادقةً نزيهة، عندما ينحسر عن العالم تسلّط القطب الأوحد.